-A +A
كاظم الشبيب
يبدو أن المجتمع العراقي بات قابلاً للاشتعال في الطالع والنازل.
فمقابل الاتفاقية الأمنية بين واشنطن وبغداد عادت الانقسامات والانقسامات المضادة إلى الصورة، وتكررت أشكال الاصطفافات والاصطفافات المضادة على واجهة مسرح الحياة السياسية اليومية.
الصورة تشابه، من بعض الوجوه، لما يجري في المجتمع الفلسطيني بين رام الله وغزة. ولن يكون الاقتتال الطائفي الذي وقع في نيجيريا الأسبوع الماضي وراح ضحيته أكثر من 381 قتيلا من المسلمين آخر المطاف لتكرار الصورة.
أمام الفرد والمجتمع خياران، لاسيما في البلدان المصبوغة بالتنوع الطائفي والمذهبي والديني والإثني والقومي والعرقي.
أما التنافر أو التآلف. التنافر بمعنى فقدان أطياف المجتمع القدرة على التعايش المشترك والاحترام المتبادل..
وبالتالي تبات هذه المجتمعات والبلدان مهيأة دائماً للصراع والتحارب. والتآلف بمعنى القبول المتبادل بين أطياف المجتمع للمساواة الاجتماعية والقانونية والمواطنة.
وبالتالي حصول الحد الأدنى من عيش مشترك واستقرار مستمر.
التنافر قد لا يأتي من عنوان سياسي صارخ كالإقصاء السياسي والتهميش الاجتماعي فقط.
بل مجرد شعور الفرد أو أية فئة اجتماعية بالتجريح والتعيير بسبب اللون أو العرق أو الطائفة، يفضي بلا شك لإحساس هذا الفرد أو تلك الفئة بالمظلومية، وهو إحساس خطير في نتائجه إذا وقع تجاه هوية ما أو أهلها..
فالانتماء الذي يتعرض للتجريح ويشعر أهله بمظلوميتهم أمام الهويات الأخرى.
ويرددون صوراً لمعاناتهم واضطهادهم، تحولهم هذه الحالة إلى توثيق تمسكهم بهويتهم وتماسكهم تجاه الهويات الأخرى..
بل تساهم في رسم تراتبية تلك الهويات وانتماءهم لها.
لذلك «غالباً ما ينزع المرء إلى التماهي مع أكثر انتماءاته تعرضاً للتجريح».
والتآلف قد لا يأتي أيضاً من عنوان سياسي صريح ومباشر فقط، بل مجرد شعور الفرد أو أية شريحة اجتماعية بأن وجودها غير مميز عن الأفراد والشرائح الاجتماعية الأخرى.
بل جميعهم يشملهم شعور وأحد بأنهم يحصلون على الحقوق والفرص من خلال عدالة قانونية واجتماعية تشمل وتعم كل المواطنين دون قيد أو شرط، وبالتالي تتساوى النتائج من خلال الكفاءة والجدارة دون تمييز.
حينها يرضى الجميع بإفرازات وثمار الحالة العامة بعلو مراتب البعض، من أي طيف كانوا، ودنو البعض الأخر، من أي طيف كانوا.
في كلتا الصورتين نلاحظ بأن المنظور ليس العنوان أو الشعار الذي يرفعه هذا البلد أو ذاك، بل هو الواقع الذي يعيشه الناس وطبيعة إفرازاته وانعكاساته على مشاعر وأحاسيس الناس، لأن التنافر والتآلف هما تعبيران عن حالة واقعية لطبيعة العلاقات والتعاملات.
وهي ثمرة التعامل والنظرة المتبادلة بين الناس في المجتمعات المتعددة التنوع. هذا الواقع، وفق إيقاعاته اليومية، يُشكل محور العلاقة بين قوة وضعف الولاء وقوة وضعف الانتماء لهذه الهوية أو تلك، سواء كانت هوية واسعة أو ضيقة.
ومن المفارقات غير المنطقية في صفحات التاريخ القديم والحديث، أنه وبينما يُعد التآلف، بين الناس والمجتمعات والشعوب، رغم كل الاختلافات الحقيقية بينهم، أمراً مستهدفاً من قبل الرسالات السماوية والفلسفات الأرضية عبر الحضارات المتعاقبة.
ويعد التنافر أمراً مستهجناً، إلا أن الواقع غالباً ما كان نتاج الفهم المغلوط للذات والآخر، مما يجعل التنافر، تحت عنوان «التمايز عن الغير»، هو السائد، والتآلف هو المستغرب.
هذا «التمايز» الذي يسعى إليه أغلب الناس، في أغلب المجتمعات والبلدان، منشأه الفعلي البحث عن ترسيخ وتعزيز قيمة «الهوية» التي يحملها ويدافع عنها هذا الطيف أو ذاك في سياق المحافظة على «الهوية الذاتية».
كل ذلك – ترسيخ الهوية والمحافظة عليها- جميل وحق مشروع.
ولكن من المخاطر الخفية، التي ينبغي التنبه لها ولتبعاتها، على الدعوات المشروعة نحو المحافظة على الهويات الذاتية، احتمالية الوقوع في فخ انغلاق أهل الهوية على انتمائهم، وبالتالي العيش في عزلة تمنع وتحد من تعاطيهم مع محيطهم في ما يخدم تنمية أهل الهوية ذاتها.
من هنا تبرز قضية التوازن بين الحاجة للانتماء والحاجة للانفتاح، انتماء هادم للعقد تجاه ثقافات الهويات الأخرى، وانفتاح بناء لا يستعير من هويته الخاصة..
بل هو انفتاح يخدمها ويقويها. هو توازن بين المحافظة على وجود وبقاء الذات ووجود وبقاء الآخر.
والله من وراء القصد.
kshabib@hotmail.com

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 141 مسافة ثم الرسالة